أعلن المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما عقب انهيار الاتحاد السوفيتي “نهاية التاريخ”، معتبرًا أن الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي انتصرا نهائيًا. لكن النظام العالمي اليوم يثبت عكس ذلك، حيث تراجعت الديمقراطية الليبرالية وتصدعت قواعد النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
أمام هذا الواقع، عادت بعض الأصوات مؤخرًا لتروج لميلاد "شرق أوسط جديد" بعد الحرب بين إسرائيل وإيران، زاعمة تراجع نفوذ طهران ومحورها في سوريا ولبنان وغزة. هذه الادعاءات تتكرر منذ قرن تقريبًا، بعد كل حرب. لكن، بدلًا من التحول إلى الازدهار، تزرع كل حرب بذور الحرب التالية.
بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة عام 1967، بدا وكأن إسرائيل حققت نصرًا حاسمًا، لكنها بذلك مهّدت لصعود منظمة التحرير الفلسطينية كقوة مستقلة عن الأنظمة العربية. هذه المنظمة، التي كانت سابقًا أداة بيد أنظمة عربية، أعاد الفلسطينيون تشكيلها بما يخدم قضيتهم، لا مصالح الأنظمة.
عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت، لكنها أطلقت بذلك نشأة حزب الله، الذي أصبح تهديدًا دائمًا لها على مدى أربعة عقود. إسرائيل تدرك القوة الكامنة داخل المجتمعات العربية أكثر مما تدركها الأنظمة العربية نفسها، التي غالبًا ما تهدر إمكانياتها الذاتية.
مع انطلاق الربيع العربي، سارعت إسرائيل لإجهاض التحول الديمقراطي، خصوصًا في مصر، خشية انقلاب الرأي العام المصري على اتفاقيات كامب ديفيد. استخدمت تل أبيب نفوذها في واشنطن لدعم نظام عبد الفتاح السيسي بعد انقلاب 2013.
فكرة “الشرق الأوسط الجديد” التي تروج لها إسرائيل ليست فقط غير واقعية، بل تقوم على مطالب لا يمكن لأي نظام عربي قبولها. حتى عندما تفكر بعض الدول في تقديم تنازلات كبيرة، تستمر إسرائيل في المطالبة بالمزيد. قبل 7 أكتوبر 2023، كانت السعودية على وشك الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وهو ما كان سيهمّش القضية الفلسطينية تمامًا، دون أن تحصل الرياض على مقابل فعلي، سوى مزيد من النفوذ في واشنطن.
وبعد عامين من القصف على غزة وجنوب لبنان، شنّت إسرائيل، بدعم أمريكي، هجومًا مفاجئًا على إيران، في انتهاك واضح للقانون الدولي. استهدفت الضربات منشآت نووية، مهددة بكارثة إشعاعية، رغم التقديرات الاستخباراتية التي لم تبرر هذه المغامرة. مرة أخرى، يتضح أن القانون الدولي يُفعّل فقط عندما يخدم مصالح الغرب.
لطالما ردد قادة الغرب عبارة "شرق أوسط جديد"، وكأنها عقيدة، رغم أن الواقع يؤكد أن هذه المنطقة تعيد تشكيل نفسها كل عقد. الحرب بين إسرائيل وإيران لم تُنتج نصرًا حاسمًا، لكنها كشفت عن قدرات عسكرية واستخباراتية متقدمة لدى الطرفين، وأبرزت نقاط ضعفهِما. ومع استمرار صعود نتنياهو داخليًا وثبات نظام خامنئي، تظل احتمالات المواجهة قائمة.
أما الدول العربية، فبدا ضعفها العسكري واضحًا، وعجزها فادحًا. حين سقطت طائرات مسيرة في الأردن وهددت إيران بإغلاق مضيق هرمز، لم تملك دول الخليج خيارات سوى الاحتماء بإسرائيل والقواعد الأمريكية، ما كشف عدم قدرتها على الدفاع الذاتي أو لعب دور مستقل.
هذا الصراع فتح على العرب جبهتين خطيرتين: من جهة، تسعى إيران إلى إعادة ترميم قوتها الناعمة في العراق وسوريا ولبنان، وتقديم نفسها كقوة المقاومة الوحيدة. ومن جهة أخرى، تشهد إسرائيل تصاعدًا في نفوذ قوى دينية قومية داخل حكومتها، وتدفع باتجاه سياسات قد تنتهي بتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، على حساب الدول العربية المجاورة.
وبعد مرور عامين على الإبادة في غزة، وفي ظل فشل العالم في وقف المجازر والمجاعة، تواجه الدول العربية مأزقًا سياسيًا عميقًا. عليها أن تعيد النظر في التيارين الرئيسيين اللذين سيطرا على سياساتها لعقود: العَلمانية المتحالفة مع الغرب، والإسلاموية المتأثرة بإيران أو تركيا. بينما اصطدم هذان النهجان مرارًا، بقيت الشعوب العربية ضحية الصراع.
ربما آن الأوان لصياغة رؤية جديدة للمنطقة، تضع مصالح العرب أولًا، وتنبع من داخلهم، لا من عواصم الغرب أو الشرق. الشرق الأوسط بحاجة إلى مشروع سياسي عربي مستقل، يستند إلى طموحات الشعوب، لا حسابات الحلفاء أو الأعداء.
https://www.middleeasteye.net/opinion/why-western-visions-new-middle-east-are-irrelevant